أجيال في مدرسة التاريخ

أجيال في مدرسة التاريخ

أجيال في مدرسة التاريخ

الجمعة 10/6/2007

 
ما قيمة تدوين التاريخ؟! لماذا يحرص المؤرخون على تخليد حقب التاريخ؟! هل تكمن أهميته في إشباع فضول الشعوب في معرفة ما حدث على الأرض عبر العصور؟! أم تنصبُّ هذه الأهمية في كون التاريخ مرتبطاً بظهور الأديان السماوية الثلاثة على الأرض؟! أم أن التاريخ كما يرى الكثيرون، ما هو إلا رسائل ضمنية ليستفيد منها القاصي والداني؟! هل التاريخ أنشئ ليُصبح مجرد “حكاوي” يرددها الرواة على المقاهي، لكي تدفع الضجر والسأم عن الجالسين في مقاهي الحياة؟! وهل للتاريخ دور إيجابي في إنارة فكر الأفراد داخل المجتمعات؟!.
هذه الأيام يُحيي الإعلام العربي على مختلف قنواته، الذكرى الأليمة لحرب 5 يونيو من عام 67، بمناسبة مرور أربعين عاماً عليها، من خلال إعادة بث بعض الصور الحية لوقائع هذه الحرب، تُصاحبها لقاءات مع مسؤولين وقادة وأناس عاصروا هذه الحقبة الأليمة، وعاينوها عن قرب. وقد تفاوتت وجهات نظر هؤلاء حول: على عاتق منْ تقع مسؤولية الهزيمة؟ وفي تحديد مسماها بـ”الهزيمة” أو بـ”النكسة”.
لفت انتباهي، قيام بعض القنوات الفضائية بالنزول إلى الشارع وسؤال الأجيال الشابة تحديداً عن هزيمة 67، فكانت إجاباتهم متشابهة في أن أغلبيتهم لا يعرفون عنها شيئاً سوى أنها كانت بالتأكيد حرباً مع إسرائيل، أما تبعات هذه الحرب، وما أدّت إليه من تغييرات جذرية على الخريطة العربية، والتي فقد العرب على إثرها القدس، والضفة الغربية، وقطاع غزة، والجولان، وسيناء بأكملها، فكانوا يجهلون هذه المعلومات تماماً. أصابتني إجابات الشباب بالوجوم، وخيبة الأمل، ولا أعرف كيف تمَّ إسقاط هذه الحقبة من تاريخنا في مناهجنا التعليمية العربية! هذه الحرب لم تتحمل تبعاتها مصر وسوريا والأردن فقط، بل حمل وزرها العالم العربي بأسره من محيطه إلى خليجه، ويكفي أن الكثير من العمليات الإرهابية التي تقع بين حين وآخر، في بقعة هنا، وبقعة هناك، تتم بتبريرات الدفاع عن القضية الفلسطينية، كأن فلسطين لن تعود إلا بالضرب عشوائياً، وتهديد أمن العالم، حتّى نؤكد بأنه كان لنا وطن تمَّت سرقته بالكامل!.
 
الغريب في الأمر أن أغلبية البلدان العربية، لم تقم بتزوير تاريخها لمصلحة أنظمتها العربية فقط، وإنما فرضت على شعوبها النظر إليه بقدسية. ممنوع على أي كان مهما بلغت درجة ثقافته، أو درايته بمنعطفات التاريخ، أن يُنبّش فيه، أو يُشكك في بعض فصوله الغارقة في الكذب والافتراء، أو يتعرّض لفكرة تضخيم المواطنة لدى الأجيال الجديدة، حتّى لا تأبه بما يجري من حولها، بل وتمادت في غيها بأن طمست من مناهجها التعليمية، التفاصيل الدقيقة لمجريات قضية فلسطين، مقتصرة على فصولها المأساوية الأولى.
تنوير الأجيال الصاعدة لا يعني الاكتفاء بحشو عقولها بأمجاد النضال ضد الاستعمار، ولا بتضخيم الأنا القطرية على حساب عروبتها، ولا بتحييد أدوارها داخل دائرة أوطانها، وإنما يستلزم كذلك كشف مآخذ أجدادنا التي وقعوا بها على مر العصور، وجعلها نصب أعينها، وأنهم لم يكونوا معصومين من الأخطاء، بفضح زلاتهم، انتهاكاتهم، همجيتهم، وحشيتهم، أطماعهم الذاتية، نزواتهم الخاصة، حتّى تتلقّى هذه الأجيال دروساً ملموسة، في كيفية تلافي الأخطاء، وتفادي السقطات. لهذا أقيم التاريخ، ليس لوضعه فوق الرفوف، وحشو دفتيه بالأكاذيب، وإقامة نُصب تذكاريّة له في الميادين العامة العربية!.
 
التاريخ عبرٌ وعِظات، وهو الخيار الأمثل الذي يتيح للأجيال الجديدة فهم ماضيها، واستيعاب حاضرها، والتخطيط لمستقبلها بوعي، لكننا ما زلنا نتعامل مع تاريخنا باستخفاف أحياناً، وبفقدان ثقة أحياناً أخرى بتأليهه أحياناً ثالثة، مثل الكثير من أشيائنا التي أضعناها بسبب تسامحنا العشوائي، الذي لا ينمُّ عن طيبة إنسانية، وإنما ينمُّ عن جهل سافر، والجهل جريمة كبرى في حق الأجيال القادمة التي لا تشب على لغة المعرفة الحقيقة، فمتى نُؤسس مدارس فعلية لتفنيد تاريخنا بموضوعية؟!.