نهب الآثار… واستباحة الأعراض!!

نهب الآثار… واستباحة الأعراض!!

نهب الآثار… واستباحة الأعراض!!

الأحد 3/8/2008

 
كل مدينة أخطو فيها بقدميَّ عند المرة الأولى، أحرص على لمس وجهها، والتدقيق في ملامحها، ومعاينة تضاريس جسدها، من خلال زيارة متاحفها والتمعّن في مبانيها القديمة وأخذ جولة في مساجدها ومقاماتها ومعابدها وكنائسها. وكما أن الإنسان لا يكتشف أغوار غيره إلا من خلال احتكاكه المباشر معه، كذلك المدن لا نرى وجهها الحقيقي إلا من خلال آثارها التي خلفها أهلها القدامى.
 
المدن ثقافة متحركة، يتعرّف المرء عند تنقله بينها على تاريخ شعوبها، وتنقشع أمام ناظريه خلال تجواله فيها، أن هناك مدناً مصطنعة قد تُبهره بمبانيها الشاهقة، وتُذهله بطرقاتها المعبدة، وحدائقها المنسقة، لكنها لا تُحرك مشاعره، ولا تترك أثراً لافتاً في ذاكرته، يغادرها غير آسف على فراقها، وينساها بمجرد أن يوليها ظهره. فهي تشبه المرأة المصطنعة التي تضع طبقة سميكة من المساحيق على وجهها لتنال إعجاب المارين، لكن ما أن تقوم بإزالتها حتى يفاجأ المحدق فيها بتواضع جمالها.
 
وهناك مدن عريقة، ما أن يطأ المرء أرضها ويشم نسائمها حتى يعشقها من الوهلة الأولى، منبهراً بجمالها الأخاذ، كونها حافظت على هويتها، وأبقت على تاريخها من خلال آثارها التي تحكي بصمت عظمة مكانتها، وتقص بصوت واثق النبرة، الأمجاد التي خلفها أجدادها، يرحل عنها وقلبه متعلق بها، حزيناً على فراقها. فهي تشبه المرأة البسيطة التي تدرك قيمة جمالها وتصر على أن تسير بين الناس دون أن تتعمد طلي وجهها بالمساحيق لتجمل صورتها، ولكي تنهال عليها كلمات الغزل.
 
كل بلدان العالم تحافظ على آثارها وتفاخر بها، فهي تقدم صوراً حية لمن يرغب في معرفة أصلها وفصلها. فمن يفقد تاريخه كمن يفقد هويته وبصمته في الحياة.
 
ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن الآثار العراقية. وأتذكر عندما دخلت قوات الاحتلال العراق، أثار فزعي نهب المتحف الوطني العراقي الذي يعلم الجميع ما كان يحتويه من نفائس نادرة، وقد كان الإسرائيليون أول من استفادوا من عملية النهب التي طالت أكبر مكتبة يهودية أثرية، حيث قامت المليشيات المرافقة لقوات الاحتلال في ذلك الوقت بتهريب المخطوطات الأثرية خاصة المتعلقة بأسفار التوراة ونقلها إلى إسرائيل.
 
الجميل في الأمر أن الأهالي في ذلك الوقت قاموا بالتصدي لقوات الاحتلال، حين حاولت شحن مخطوطات إسلامية كان من ضمنها مصحف كريم مكتوب بخط الإمام علي بن أبي طالب، من منطلق قناعاتهم بعظمة حضارتهم وحتمية المحافظة عليها.
 
قيام الحكومة العراقية بتشكيل لجنة فنية للبحث عن القطع الأثرية المسروقة وإعادتها إلى أرض العراق، خطوة إيجابية لترميم وجه العراق الحضاري الذي شوهته الأيدي القذرة الباحثة عن صيد ثمين حتى لو كان على حساب وطنها.
 
لم تسنح لي الفرصة في الماضي لزيارة العراق، وكم تمنيت لو تمكنت من الاطلاع على تاريخ هذه الحضارة عن قرب. فعندما اقتحمت قوات الاحتلال أرض العراق وسمعت ما جرى لآثارها، وجدت قدميّ تسوقاني حينها إلى المتحف البريطاني لأروي عطشي بمعاودة مشاهدة محتويات الجناح الآشوري، الذي استولت عليه الحكومة البريطانية إبان الاحتلال البريطاني للعراق.
 
إن سرقة آثار بلد، جرم لا يغتفر، كمن يستبيح أعراض النساء العفيفات. كلاهما يعتبر تعدياً سافراً على الكرامة الإنسانية، وكشفاً للعورات، ووضع اليد بالقوة على أملاك الآخرين.
 
هدم الآثار لا يقل في أهميته عن سرقة الآثار، وما زلتُ أحس بالمرارة كلما سمعت عن إزالة آثار إسلامية في بلادي خاصة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، بفتوى من بعض المشايخ بحجة أن الاحتفاظ بها شكل من أشكال الجاهلية الأولى، غير مدركة العقول المتحجرة أن هذه الآثار التي تركها لنا المسلمون الأوائل، هي المصدر الحقيقي لتاريخنا الذي تستقي من نبعه الأجيال على تعاقبها.
 
لماذا لا نعرف قيمة أوطاننا إلا حين نجدها تستباح بوحشية؟ لماذا تتعمد النفوس الضعيفة ذبحها بأيديها وتقديمها أضحية لغيرها من أجل حفنة من المال، أو تهدر مكانتها من أجل معتقدات عقيمة تشعبت داخل مخيلتها المريضة؟ إن المال يذهب، والنفوذ يتبخر، ولا يبقى سوى حضن الوطن. فهل كثير أن نُحافظ على أصالته المتمثلة في عبق تاريخه؟