كيف نطمس عُقد الماضي؟!

كيف نطمس عُقد الماضي؟!

كيف نطمس عُقد الماضي؟!

الأحد /14/2008

 
بداخل كل فرد تربض عقدة من الماضي، قد تذوب مع مرور الوقت، وقد ينوء بحملها ويُورّثها لأبنائه من بعده. والشعوب من أقاصي الأرض لأدناها وعلى مختلف العصور، تعرّضت لنير الاستعمار، وعانت الأمرين من صنوف العبودية والرق والعنصرية على مختلف أنواعها، وبقيت تفاصيلها راسخة في ذاكرة أجيالها. مثلها مثل السياط التي تترك بصماتها الدامية على جسم الإنسان ولا تفلح السنوات الطوال في طمسها!
 
كانت لندن قد أقامت منذ أشهر قليلة حفلا موسيقيا مميّزا على شرف المناضل “نيلسون مانديلا” بمناسبة بلوغه عامه التسعين، وقد لفت انتباهي أن الفنان الأسود “ويل سميث” كان يتقدّم قائمة النجوم حيثُ حرص على الحضور للمشاركة في تكريم هذا الرجل، وقد ظهر أماما كاميرات المصورين، وقد علت محياه تعابير الحبور والاعتزاز لما حققه “مانديلا” من انتصارات للقضاء على التمييز العنصري بجنوب أفريقيا.
 
ومؤخراً أثارت “أوبرا وينفري” المذيعة السوداء ونجمة البرامج الحوارية، التي لم تحصد امرأة في عصرها النجاح الذي حصدته، زوبعة حولها بسبب رفضها استضافة سارة بالين المرشحة “الجمهوريّة” لمنصب نائب الرئيس في برنامجها الشهير إلا بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية.
 
اتحاد النساء “الجمهوريات” في فلوريدا، قرر مقاطعة برنامج الإعلامية الشهيرة وعضواته عبّرن عن خيبة أملهن فيها، وأنها بموقفها السلبي تؤكد امتناعها عن تسجيل تأييدها لأعظم لحظة سياسية في تاريخ المرأة الأميركية بعد حصولها على حقها في التصويت والترشيح، متهمات إياها بأنها استغلت إمبراطوريتها الإعلامية لدعم “باراك أوباما”.
 
“أوبرا وينفري” دافعت عن نفسها، مبررة موقفها من عدم استضافة “سارة بالين” بأنها لا تُريد أن يستغل أيٍ من المرشحين برنامجها للترويج لحملته، ولكن الحقيقة أن “وينفري” لم تفلح في إخفاء مشاعرها وانحيازها لأول مُرشح ٍأسود لرئاسة أميركا، رجل سيردُّ في حال فوزه كرئيس دولة عظمى، الاعتبار لأجدادها السود الذين ذاقوا الذل والهوان على يد الرجل الأبيض قرونا طويلة!
 
السود الأحفاد، لم يستطيعوا محو ذلك الأمس الأليم بالرغم من نجاحهم في فرض وجودهم بموسيقاهم وأغانيهم، بل يتعمدون في كل مناسبة التأكيد بأن حقوق السود لم تزل مهضومة داخل أميركا.
 
أوطاننا العربية هي الأخرى، لم تفلح في التحرر من حقب الاستعمار التي ولّت منذ عقود. ورغم أن أوروبا قدّمت الكثير من الخدمات الجليلة لمجتمعاتنا الكفيلة بغفران أخطائها، إلا أننا نصرُّ في كل صغيرة وكبيرة على رمي أحمال تخلفنا عليها، وأن المستعمرين قضوا على نهضتنا، وأبطأوا تقدمنا، ونهبوا خيراتنا، وبددوا ثرواتنا، دون أن يتجرأ أحد على القول، ويقرَّ علنا بأن الذين قمعوا شعوبنا وأضاعوا ثروات أوطاننا من بني جلدتنا، كانوا أضعافا مضاعفة مقارنة بالغرباء الذين احتلوا أراضينا وسفكوا دماء أبنائنا!
 
لقد فاجأت إيطاليا العالم بقرارها تقديم اعتذار خطّي إلى ليبيا عن سنوات الاستعمار، وتعويضها بمبلغ خمسة مليارات دولار يتم تقديمها في شكل مشاريع تنموية داخل ليبيا. وأنا أقرأ هذا الخبر عاد في خاطري شريط فيلم “عمر المختار”، الذي يُعتبر من أعظم الأعمال التي أخرجها المخرج العالمي “مصطفى العقّاد” حيث تُصوّر أحداثه تاريخ هذا المناضل العظيم، وتُبيّن التضحيات التي قدمها الشعب الليبي من أجل تحرير أرضه.
 
هل فتحت إيطاليا الباب أمام غيرها من دول أوروبا، لتقديم اعتذارات مماثلة أم تسببت في إحراجها؟! هل ستقوم فرنسا بتقديم اعتذار معنوي ومادي لدول المغرب العربي الأخرى، وعلى الأخص الجزائر التي قدّمت أكثر من مليون شهيد في نضالها وفقدت خيرة شبابها؟! هل هذا التجاهل المتعمّد من قبل الدول المستعمرة له تبريراته المقنعة؟!
 
الشعوب ذاكرتها قوية حين يتعلّق الأمر بكرامتها وإنسانيتها، ومن يقول عكس هذا يُجافي الحقيقة! وما يجري اليوم في أميركا على يد رجل أسود يُكافح بكل ما أوتي من عزيمة ليُطبب جراح أجداده، ويرد الاعتبار لقومه الذين كانوا يُخطفون من أرضهم ويُقتادون مكبلين بالسلاسل لخدمة الرجل الأبيض، يستحق بالفعل وقفة تأمل.
 
الدوائر تدور، والحياة تتقلّب مثل الفصول الأربعة، لكن السؤال الذي يفرض نفسه… كيف نُقنع الغرباء برد الاعتبار لنا، وتعويضنا عن كل ما سلبوه منّا، وبدء صفحات بيضاء، في زمن لم تعد تُرفرف في أفضيته حمامات السلام؟!