الإعلام… مسؤولية أم تحريض؟!

الإعلام… مسؤولية أم تحريض؟!

الإعلام… مسؤولية أم تحريض؟!

الأحد 30/11/2008

 
كل فرد يكره الظلم، ويؤمن بالعدل، هو في داخله إنسان سوي، ضد انتهاك حقوق الإنسان في أي بقعة على الأرض، دون تحيّز لجنسية أو ديانة أو مذهب أو معتقد. والإعلام بقنواته المختلفة منذ نشأته من أهم أدواره تسليط الضوء على أحوال المجتمعات، ولفت أنظار الناس إلى قضاياهم المصيرية، وفضح السلبيات للحد منها وتضييق الخناق عليها.
 
هل هذه المقاصد النبيلة تعني بأن على الإعلام أن يكون “مفلوتا”، أرعن، لا يجوز لأحد كبح جماحه أو الوقوف في وجهه وتقريعه؟! هل هذا يعني بأن من حق الإعلام أن يُحرّك الشارع تجاه قضية ما، أو حادثة بعينها، وإن كان هذا التحريض سيساهم في إشعال فتيل الفتنة الطائفية، أو يُثير العصبية القبلية، أو يُقلّب الرأي العام ضد بلد والمساس بقوانينه؟!
 
مؤخراً، قامت الدنيا ولم تقعد في مصر، بعد صدور حكم قضائي في السعودية في حق طبيبين، تمَّ الحكم عليهما بالسجن والجلد بعد أن ثبت تورطهما في بيع مواد مخدرة محظورة من التداول داخل السعودية. وهو ما جعل الإعلام المصري يشحذ سكاكينه ويشن هجوماً جماعيّاً عليه، مشككين في الحكم وأنه يجب التراجع عنه!
 
جميعنا يعلم بأن كافة الدول العربية بما فيها مصر تمر بمثل هذه الحالات يوميّاً، ولم نر يوماً صحيفة مصرية من صحف الحكومة أو المعارضة تقف في مواجهة أي حكم قضائي، من منطلق أنها أحكام تخضع للقانون المصري. فلماذا هذه الضجة التي أثيرت في مصر والمطالبة بوقف التعاقد مع الأطباء المصريين؟! بل ووصل الأمر ببعض الأقلام في صحف المعارضة، إلى المطالبة بقطع التمثيل الدبلوماسي مع السعودية حتّى يتم إطلاق سراح الطبيبين!
 
أنا ضد أحكام الجلد بكافة أنواعها، وأؤمن بحق كل فرد في محاكمة عادلة مهما قلَّ أو علا شأنه، لكن كنتُ أتمنى من الإعلام المصري أن يتفهّم حيثيات القضية، ويعرضها بشفافية على الرأي العام بدلًا من ممارسة هذا النوع من “البلطجة” الإعلامية، التي تحمل في طياتها “لوي الذراع”. وهي بلا شك ليست من شيم الإعلام الحر، الذي ينصبُّ دوره الحقيقي في حمل شعلة الحقيقة، والقول للأعور إنه أعور في وجهه!
 
لقد نسيت الصحف التي انتهزت هذه الحادثة لرفع نسب توزيعها، ولعمل دعاية مجانيّة لنفسها، أنها بقصد أو من دون قصد ستتسبب في توتّر العلاقة بين شعبين يربطهما تاريخ طويل. وستؤدي إلى قطع أرزاق أسر كثيرة، بيوتها مفتوحة على الحوالات التي يُرسلها أبناؤها الذين يعملون في دول الخليج! ولا أدري كيف يتم استغلال أوضاع هذه الأسر والاستهانة بظروفهم، في وقت تعصف الأزمة المالية بكل بقاع العالم، كأننا نعيش في بلاد “الواق الواق” ليس لنا علاقة بكل ما يجري من قريب أو بعيد؟!
 
جميل أن يقوم الإعلام العربي بالدفاع عن قضايا مواطنيه، وأن يُفرد صفحاته لتوضيح الحقائق، لكن هناك فرقا بين هذا الأمر، وبين تأييد الضلال والترويج للجور!، كما أن الظلم والعدل وجهان مختلفان لعملة واحدة! فالظلم يحدث حين يقع على إنسان بريء. والعدل يعني أن الجميع يجب أن يقفوا سواسية أمام القانون.
 
ليت إعلامنا العربي من محيطه إلى خليجه، يصب اهتماماته في المطالبة برفع قيمة الإنسان داخل أوطانه، والتي وصلت إلى الحضيض، ويُوفّر طاقاته لما هو أهم وأشمل ويؤدي إلى توعية الإنسان العربي. وأن نُسخّر إعلامنا في نقد الحكومات المستبدة، وفي مواصلة قشع الأستار عن أخطائها الفادحة. وفي التنديد بمظاهر الفساد التي كانت سبباً مباشراً في تفاقم الفقر في مجتمعاتنا. وفي عرض مشاهد المآسي التي تئن تحت أسقف بيوتنا من الداخل. وفي المطالبة بحق سجناء الرأي والتعبير في محاكمات قانونيّة منصفة. وفي تعزيز مظاهر الديمقراطية في أوطاننا العربية.
 
إن مجتمعاتنا العربية فيها قصص يندى لها الجبين لمن رغب في إحراز سبق صحفي! فلندع إعلامنا يلتفت لأدواره الحقيقية، ولندع القانون يأخذ مجراه، بل ولنطالب مع سبق الاصرار والترصّد أن يُطبّق القانون على الجميع دون تمييز بين مواطن ومُقيم، علّها تكون الشرارة التي تنطلق لتّنير دروب الديمقراطية التي مازالت في أوطاننا غارقة في ظلام دامس.