ترميم الذاكرة

ترميم الذاكرة

ترميم الذاكرة

الأحد 22/3/2009

 
بعد أن أنهيتُ كتاب “ترميم الذاكرة” للكاتب البحريني “حسن مدن”. حاصرتني عدة تساؤلات، وحرتُ أين أضع كتابه في خانة التصنيفات. هل أعتبره رواية؟! كيف يكون ذلك وهو لم تتوفّر فيه العناصر الفنية للرواية؟ هل أعتبره سيرة ذاتيّة؟! كيف يكون ذلك وقد أغفل الكاتب التطرّق لتفاصيل دقيقة عن حياته، كون السيرة تستلزم منهجية خاصة، وتتطلّب امتطاء ظهر الشجاعة، وعدم الخشية من كشف المستور، وهو ما لم يجرؤ على اقتحامها سوى قلة نادرة من الأدباء العرب ظلّت لعنة سيرهم تُطاردهم إلى نهاية حياتهم.
 

“الذاكرة أشبه بالدهاليز وبالغرف المغلقة أو حتّى المفتوحة، نلجها ونحن نتحسس خطواتنا بحثاً عن تلك الأشياء الوديعة التي خلّفناها هناك. .. في كل دهليز ثمة ذكرى. حين نكتب عن الماضي فإننا نلملم الذكريات من هذه الأروقة ثمّ نُعيد تشكيلها وتكوينها
 

هذه عبارات من كتابه. فهل نحن بحاجة إلى ترميم ذاكرتنا بين حين وآخر، أم أن العطّار لا يملك القدرة على إصلاح ما أفسده الدهر؟! هل أشياؤنا القابعة في قبو فكرنا هي جزء لا يتجزأ من ممتلكاتنا الخاصة التي لا تستوجب منّا عرضها أمام الملأ، أم هي بالفعل حق مستباح للأجيال الجديدة ليعتبروا ويتعلموا منها؟! هل يجد الكاتب مُتعة نفسيّة في إزاحة الغبار عن ذكرياته بكل ما فيها من أوجاع وانتكاسات، أم يهدف من ورائها إلى التشفّي ببعضهم ممن تركوا ندبات مؤلمة على جسده؟!
 

في موضع آخر يقول “رأيتُ علامات ذلك الزمن في غضونٍ تعلو الوجوه، في شعر قد تساقط أو إبيضَّ، في ملامح قد تبدلت”. سطور تنضح بالأسى، بأن بصمات الزمن تركت خطوطها في وجوه الأهل الذين تركهم خلفه يوماً ما! وأن البعد عن الوطن والأحباب أحدثت جرحاً غائراً من الصعب تطبيبه! مُلمّحا بأن المثقف العربي صاحب المواقف المضيئة، يدفع ضريبة فادحة حين يُقرر التغريد خارج السرب وحده، فيغدو غناؤه شاذاً، وإنْ كان يمتلك حبالا صوتيّة عذبة!
 

لكنه يعود فيقول بأن مشكلة الإنسان ليست مع الغربة الخارجية، وإنما ما ينخر نفس الإنسان في أعماقه وشعوره بالغربة الداخلية وقصد بها غربة الروح! متابعاً بأن الإنسان مع مرور الوقت يستطيع أن يُسوّي غربته الخارجية، متسائلا: من يُسوّي أمر منفى الإنسان الداخلي الذي يزداد وحشة؟
 

من أصعب المواقف التي يمر بها المرء، حين يُحاول أن يستجمع ذكريات الماضي وحشرها في “بقجة” الحاضر، وهو ما عبّر عنه بمهارة في سطوره التي وصف فيها مشاعره بعد غياب قسري استمرَّ ستة وعشرين عاما عن وطنه البحرين، حيثُ تركها مراهقا لم يبلغ العشرين ليعود إليها رجلا ناضجاً، وقد أخذ يتفحّص الأمكنة القديمة ليكتشف بأنه لم يتبقَّ فيها شيء من آثاره!
 

نعم لقد صدق الكاتب، فالماضي من وجهة نظري يعيش في وجداننا، والأمكنة مرتبطة بلحظاتها، ومشاعرنا التي مررنا بها لا نقوم بتحنيطها في فكرنا في قالب واحد لا يتبدّل ولا يتلوّن، بل هي شريط نُعيد كرّه في أذهاننا كلما دغدغنا الحنين لذلك الماضي البعيد!
 

هناك تساؤلات فلسفية كثيرة في كتاب “حسن مدن”، كسؤاله من هم الأكثر حظّاً في الحياة؟ هل هم الذين تضعهم الحياة أمام خيار واحد وبالتالي لا يُواجهون قلق وحيرة الاختيار الذي يعفيهم لاحقا من الندم على خيارهم، أم أولئك الذين يتعيّن عليهم أن يختاروا أمراً واحداً بين عدة اختيارات؟!

 

حقيقة لا أدري، وإنْ كنتُ أميل إلى حقي في الاختيار، كون هذا الواقع يفرض عليّ تحمّل مسؤولية القرار، الذي اتخذه، وإنْ أثبتت لي الأيام خطأه. فلكل تجربة مهما كانت نتيجتها فادحة هي إضافة لصاحبها بكافة أبعادها.

 

يتساءل الكاتب في نهاية كتابه، هل بإمكان الإنسان أن ينسى؟! ثمَّ يعود ليؤكد بأن الوقائع لا يمكن أن ينساها صاحبها، وأن الذي يحدث هو أن الأمور تتوارى إلى منطقة خلفية في ذاكرتنا متدثرة برداء، لكنها لا تُغادر هذه الذاكرة أبداً. وأن النسيان خديعة ابتكرناها كي نتغلّب على الألم الناجم عن الفقدان والخيبة.

 

كتاب ممتع وإن جعلني أتساءل: هل من الأفضل أن نُداري أوجاعنا عن الآخرين، أم الأمثل أن نجعلهم يُشاركوننا إياها؟!