“بوح الأربعين”

“بوح الأربعين”

“بوح الأربعين”

الأحد 8/11/2009

 
أطلقتُ زفرة طويلة بعد أن أنهيت كتاب “بوح الأربعين” للروائي محمد الرحبي. صفحات تئن ألماً، يحسّها المرء وهو يُقلّب صفحاته، فتنتابه رغبة جامحة في هدهدته إلى أن ينتهي من قراءته.

 
سيرة ذاتيّة لأديب عانى في طفولته من الحرمان والفقر في قريته “سرور” العمانيّة، التي ترعرع فيها، وتقاسم مع أهلها قسوة الحياة وشظف العيش، تحت سقف بيوت طينية لا تعرف الكهرباء، بزمن كانت عُمان في بداية تطورها العمراني والتعليمي والاجتماعي المواكب لاكتشاف النفط. متسائلا الكاتب في الصفحات الأولى لكتابه ” هل تُجدي الكتابة عن أربعين عاماً، والمرء لا يزال يكتشف الحياة؟!”.
 
لا أعرف لماذا تذكّرتُ وقتها الشاعر محمود درويش. كان يقول بأنه لا يشعر بأن في سيرته الذاتيّة ما يُقدّم فائدة. ويرى بأنها عادية جداً، من منطلق أنه لا يُحب الإفراط في الشكوى من الحياة. كون السيرة الذاتية من وجهة نظره تدفع الإنسان إلى التبجّح بالنفس، وإلى تصوير نفسه على أنه إنسان مُختلف! مُردداً بأنه كتب ملامح من سيرته في كتب نثرية مثل “يوميات الحزن العادي” و”ذاكرة للنسيان”.
 
ونجد أن كثيراً من الأدباء يتوافقون مع محمود درويش في نظرته لأدب السيرة الذاتيّة، ويرون بأن رواياتهم وقصصهم وأشعارهم تُبيّن جوانب مهمة من حياتهم الشخصية، وتعكس مواقفهم من مجتمعاتهم.
 
يتحدّث الرحبي بمرارة تطلُّ من بين السطور، عن الأوضاع المادية الصعبة التي كانت تعيش فيها أسرته “ظروف الوالد المادية لم تكن تسمح بشراء نعال كل يوم… النعال المنتشرة كانت تُسمّى “زنوبة” حيث تأتي الفردتان في كيس “نايلو”، وتبرق ألوانها من داخل الكيس الشفاف.. لا أذكر أنني امتلكت حقيبة مدرسية، ربما كرّاسة واحدة أو كرّاستين، وقلم رصاصاً أتعبته بريا”.
 
في موضع آخر، يتحدّث عن قريته التي عاد إليها بعد أن أصبح رجلاً ناضجاً “سرتُ وحيداً كأن الجدران تعرفني.. يرمقني طفل كأنه يتساءل ما الذي يبحث عنه هذا الأربعيني، يطوف كطفل تائه… الدروب لم تعد تلك التي عرفتها وعرفتني، لكن الرائحة بقيت”.
 
الموت حاضر في “بوح الأربعين” تجده في حديثه عن رفاق وأحباء غيّبهم الموت وما زالوا عالقين بقوة في جدران ذاكرته “مئات يسيرون على قطار الحياة، هناك من يودّعنا ويخرج للأبد، ولأننا لا نرى الجالس في العربات الأخرى من القطار نعتقد بأنه موجود”.
 
في الصفحات الأخيرة يتحدّث الرحبي عن حكايته مع الكتابة، وكيف كان اكتشاف المذياع مهماً، حيثُ حمله إلى بقاع أخرى من العالم، وجعله مُديناً له بتعريفه بفن الحكاية من خلال برنامج” قصة أعجبتني” في إذاعة لندن قائلًا ” كنتُ أحبُّ الحكاية لأنها أسطورة أحنُّ إليها هرباً من الواقع القاسي الذي يتعتّق مع كثافة السنين على حافته.. الكتابة هي المتعة المؤلمة.. تجربة الحياة هي تجربة الكتابة، ما كتبته هو أنا، وأنا ما كتبته”.
 
صحيح أن أدب السير الذاتيّة في بلداننا العربية لم يصل إلى حد الشفافية المطلقة كما هو حاصل في الغرب! إلا أن هذا لا ينتقص من أهمية السير الذاتيّة العربية، كونها تعكس الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يشبَّ فيها كاتب السيرة، ومن هنا تكمن قيمتها الحقيقية في استفادة الأجيال القادمة من تجارب مثقفيها.