لا تحزني مدينتي!

لا تحزني مدينتي!

لا تحزني مدينتي!

لأحد 13/12/2009

 
كثيرون سألوني… لماذا لم تكتبي عن جدة؟! ألستِ ابنة جدة؟! ألا تستحق مدينتك أن تنعيها في سطور قليلة؟! قلت.. لقد كان قلبي منفطراً على شهداء جدة الذين غيّبهم الموت في ليلة العيد دون أن يشهدوا تكبيراته، ودون أن يرتدوا ملابس العيد الجديدة التي جرفتها السيول مع أجسادهم! نعم كان قلمي مُنكّساً حداداً على مدينتي، مثل الأعلام التي تُنكّس حين تقع فاجعة حزينة في بلد من البلدان. فليس هناك عشق يدوم إلى الأبد، سوى ذلك العشق الذي يربط الإنسان بأرضه التي ولد وترعرع عليها.

 

عروس البحر الأحمر جدة، ما زالت ترتدي الثوب الأسود. أنظر لمدينتي بعيون منكسرة، فجدة اليوم ليست تلك التي فتحتُ عينيًّ عليها. التي يتزاحم أهلها عند الفجر بسوق السمك، منتظرين خروج الصيادين ليشتروا أجود أنواع السمك. جدة التي تعجُّ شواطئها بالناس في لحظات الغروب ليراقبوا اختباء الشمس خلف الأفق.
 
جدة لم تكن يوماً ضعيفة، ولا هشة، ولكن كثرة الجشعين والطامعين الذين تكالبوا عليها على مدى عقود، جعلها تنهار في نهاية الأمر، خالعة رداءها الوردي ليرى الغرباء في وضح النهار تضاريسها المتهالكة، وقد تساقط شعرها الطويل، وغارت خدودها، وغابت ابتسامتها.
 
مدينتي يا سادة يا كرام تعرّضت لكارثة على يد عدد من أبنائها. لم يحسّوا بوخز الضمير وهم يسنّون خناجرهم ويطعنوها في كل جزء من جسدها بقلوب ميتة، دون أن يرأفوا بجمال بحرها، وحلاوة شطآنها، ونقاوة سمائها.
 
هناك من ألقى بالمسؤولية على أهل جدة، وأنهم يتحملون جزءاً كبيراً مما جرى لهم، كونهم غضّوا النظر عمّا يجري في طرقاتهم الخلفية من فساد ونهب وسلب! ولكن من يعرف أهل جده لا يمكن أن يلومهم لأنهم أبدوا دوما حُسن النية، وصدّقوا وعود المسؤولين الذين اقسموا بأغلظ الأيمان أمام كاميرات المصورين، وعلى صفحات الصحف بأنهم سيكونون أمناء على جدة، وأرأف بها من الأم بوليدها!
 
جاءت الطامة الكبرى حين اكتشف أهل جدة أن الوعود كانت كاذبة، وأن كل شيء تبخّر في لحظة خاطفة، وبقيت مدينتهم وحيدة تنتفض في العراء، تنتحب على فقدان أب وأم وأخ وأخت وابنة وابن، أمام مرأى ومسمع من العالم بأسره. نعم لقد كانت فضيحة كبرى بامتياز!
 
كنتُ أبكي وأنا أتابع بعينيَّ مقاطع الفيديو، لمشاهد الموت والدمار التي التقطتها كاميرات الجوالات، لتكون شاهد إثبات وإدانة لكل من تورّط في خيانة مدينتي. ولكن قامت نفس الكاميرات بتصوير مشاهد مضيئة مؤثرة عن أناس قاموا بمواقف بطولية إنسانية لإنقاذ أرواح كانت تُصارع من أجل البقاء.
 
لا يُمكن لفيلم هوليوودي مهما كانت براعة مخرجه أن يُصوّر ما جرى في جدة من قصص مأساوية وأحزان وبطولات إنسانية على الجانب الآخر. وسيظل أهل جدة يحكون لأحفادهم، بأنه كان في زمن من الأزمان شلة من اللصوص فاقوا في جشعهم قصة علي بابا والأربعين حرامي!
 
اليوم تُحاول جدة أن تمسح دموعها وتُجفف شعرها الذي بللته السيول، منتظرة بلهفة نتائج التحقيقات التي أمر بها الملك عبدالله، في فضح أسماء المتورطين والخائنين الذين تكالبوا على مدينتي وانتزعوا فرحتها وانتزعوا أحشاءها بوحشية. جدة تُريد أن تشفي غليلها من أجل أن يرقد ضحاياها في سلام.