ابتلاع التاريخ!

ابتلاع التاريخ!

ابتلاع التاريخ!

الأحد 8/8/2010

 
قامت اليابان مؤخراً بإحياء الذكرى الخامسة والستين بمدينة هيروشيما، التي ألقيتُ عليها أول قنبلة ذريّة في تاريخ البشرية، متسببة وقتها في مقتل أكثر من 140 ألف شخص، ثم تبعتها بقنبلة ذريّة أخرى على مدينة ناجازاكي التي سقط فيها 70 ألف قتيل.
 
الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي حرص على تواجد وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، للمشاركة في إحياء هذه الذكرى الأليمة على قلوب كافة الشعب الياباني، رغب في إرسال رسالة إلى العالم بأسره، مغزاها أن أميركا متمسكة بوجوب إخلاء كافة البلدان من الأسلحة النووية

 

ترى شريحة من الشعب الياباني بأنه لا يكفي أن يقوم السفير الأميركي في اليابان بوضع أكليل من الزهور لضحايا المدينتين، بل يجب على أميركا تقديم اعتذار رسمي لليابان، على جريمتها النكراء التي سقط فيها آلاف من المدنيين الأبرياء، إلا أن أميركا تغاضت عن هذا المطلب الإنساني!
 
أتذكّر في منتصف السبعينيات عُرض الفيلم الهوليوودي “الفك المفترس” مُحققاً في ذلك الوقت نجاحاً ساحقاً، وكان هذا الفيلم بداية عصر الأفلام الجماهيريّة، حاصداً حينها إيرادات بلغت مئة مليون دولار. ويُقال بأن تأثير هذا الفيلم كان شديداً على المشاهدين إلى درجة أن عُشّاق ارتياد البحار والمحيطات أحجموا وقتاً طويلًا عن الاقتراب منها نتيجة لما سببته أحداث الفيلم من هلع في نفوسهم.
 
البطل الحقيقي لفيلم “الفك المفترس” كان يتمثّل في سمكة قرش مُصنّعة من مواد مختلفة، ومتساوية في حجمها مع ضخامة حافلة مدرسة، فكانت كاميرا المخرج تُصوّر سمكة القرش وهي تنقضُّ على فريستها ولا تتركها إلا بعد أن تحوّلها إلى أشلاء ممزقة، غير آبهة بالآهات والأنّات التي تُصدرها حناجر الضحايا، مصحوبة بموسيقى مميزة الإيقاع تُثير الفزع في الأفئدة!
 
لا أعرف لماذا ربطتُ بين سمكة القرش الضخمة ذات الفك المفترس، وبين ما ترتكبه حكومات نزقة في حق مجتمعات مسالمة لا تُضمر أحقادا لغيرها! بالتأكيد لسنا وحدنا من ننهش في وقائع التاريخ أو نزوّر في سجلاته! كل حكومات العالم لديها سجلات قاتمة السواد! ونجد لها نزوة مخبوءة هنا وخطأ متواريا هناك، مُعتمدة على مؤرخيها في جعل صور أبطالهم مُضيئة، وإن أدّت زلاّتهم في الماضي إلى تمزيق عُرى مجتمعات آمنة، وتقطيع دولها وتحويلها إلى أوصال صغيرة!
 
ألم يحن الوقت لغربلة التاريخ؟ أليس من حق الأجيال الصاعدة أن تعرف حقيقة ما وقع بالأمس من خطايا على يد حكّامها وسياسييها؟! كل مجتمعات الأرض تدور في ساقية وهم التاريخ! وكل مجتمع مهما بلغت نصاعة ضميره، يكتب تاريخه من وجهة نظر متعصبة! لا أحد معصوم من التلفيق أو تبرير الزلات أو تمرير الأخطاء حين يتعلّق بسيرته! كل دولة تُريد أن تكون نقيّة السريرة أمام شعبها!
 
مواجهة نظرات الاتهام، تستلزم شجاعة فائقة. والبداية تكون بتصحيح منهج التاريخ في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا. ولا يجب أن يقتصر الأمر على مقرر التاريخ، بل هناك المسلسلات التاريخيّة التي تغصُّ بها قنواتنا الفضائيّة وتُصوّر أبطالنا على أنهم كانوا ملائكة تمشي على الأرض!
 
جميل أن نحترم مناضلينا وسياسيينا الذين تركوا بصمات جميلة في مجتمعاتنا، لكن ليس واجبا ًملزما أن نضعهم في مرتبة القديسين! بل لا بد أن نتطرّق لأخطائهم التي اقترفوها على مدار حياتهم وهم يزرعون نجاحاتهم، إذا أردنا أن نُنشئ أجيالاً سليمة التفكير.
 
يجب أن نكتب تاريخنا بنظرة مُحايدة، حتّى تقف الأجيال القادمة في وجه الغرباء قائلة بنبرة واثقة: نعم لدينا بطولات عظيمة، لكن بالتأكيد كانت هناك سقطات مميتة ندفع اليوم أثماناً باهظة عليها!