الرجل ذو البدلة البيضاء

الرجل ذو البدلة البيضاء

الرجل ذو البدلة البيضاء

الأحد 1/5/2011

 
“لم تكد السفينة تُغادر ميناء الإسكندرية حتّى سمعتُ صرخة أبي (رجّعونا مصر.. رجّعونا مصر)”. هذه العبارة حضرت في كتاب “الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسين”، للصحفية اليهودية “لوسيت لنيادو” التي غادرت مصر مع عائلتها، وهي بعد طفلة، عام 1963 مثل الكثير من العائلات اليهودية، التي نزحت عن مصر بعد حرب 1948 ومع قيام ثورة 1952.
 
الكتاب لا يتضمن فقط نبذة ذاتيّة عن الكاتبة وأسرتها بقدر ما يُلقي الضوء على الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، التي كانت تحيا فيه الجالية اليهودية في مصر بجانب العديد من الجاليات الأجنبية التي كانت موجودة بكثرة إبان الاحتلال البريطاني لمصر في مرحلة الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
 
تتحدّث الكاتبة في الفصل الأول عن وضع اللاجئين اليهود إبان الحرب العالمية الثانية بالقول “.. ظلَّ اللاجئون اليهود يتدفقون على مصر من كل حدب وصوب، كانت الدولة الوحيدة التي ظلَّ يهودها يعيشون في أمان وسلام كامل، ولم يتعرضوا لأي ضرر كما حدث لليهود في بقية أنحاء العالم”.
 
تتحدّث عن علاقة الملك فاروق بالجالية اليهودية فتقول “كان الملك فاروق لطيفاً كريماً مع اليهود، يُرسل مبعوثيه من البلاط الملكي في المناسبات الدينية اليهودية المهمة لحضور الطقوس المقامة في معبد (بوابات السماء) ليشاركهم في احتفالاتهم”. لكن كما هو معروف انقلب الحال مع ولادة دولة إسرائيل عام 1948، وهو ما أدّى إلى تمزّق الروابط القوية بين الطرفين وامتلاء قلوب المصريين بالضغينة، تجاه اليهود وجعلهم غير مرحباً بوجودهم في مصر.
 
تقول في الفصل الثالث عشر: “كان أبي يتحدّث بهوس عن بيتنا في شارع الملكة نازلي، كما لو كان ينتظر مني أن أتمسّك بكل ما فقدناه”. وفي موضع آخر تقول عن حياتهم في أميركا: “لم يكن هناك في مصر ما لا يحنُّ له والدي بالنسبة له كانت ورود أميركا بلا رائحة وبلا حياة، كانت زائفة وإن جُمعت لتوها. لقد كان البون شاسعاً بين زهور أميركا العديمة الرائحة وزهور الياسمين التي كانت تملأ هواء القاهرة”. ثمّ تتحدّث عن شعور الغربة الذي سيطر عليها عندما كانت برفقة والدتها بمدينة نيويورك فتقول: “فجأة أحسسنا بأن وميض أضواء الأعياد لم يعد مفعماً بالأمل، وشعرنا بالبعد الشاسع بين أميركا والقاهرة، وشلال الأصدقاء والأقارب الذين كانوا يتقاطرون لزيارتنا بصفة مستمرة هناك..”.
 
في الخاتمة تقرر الكاتبة زيارة القاهرة. تقول بأنها طلبت بمجرد وصولها مطار القاهرة أن تذهب إلى شارع الملكة نازلي كونه أول مكان سيرغب أبوها في رؤيته وآخر مكان يود أن يبتعد عنه. متابعة بأنها فُوجئت بأن الصور الجميلة التي كانت تحملها في ذاكرتها للقاهرة التي غادرتها، وهي طفلة صغيرة قد تغيّرت! لم يعد هناك مكان لمحلات “شيكوريل وبنزايون وهانو”، التي كانت تُنافس في أزيائها ما تُقدمه خطوط الموضة بباريس ونيويورك. وأن المباني التي كانت يوما مهيبة، بدت كأنها ستنهار في أي لحظة!
 
لكنها تعود فتقول:” لقد أدركتُ في تلك اللحظة أن شارع الملكة نازلي لم يكن مجرد مكان! كانت حيثُ يُوجد ذلك المستوى من الإنسانية غير المسبوقة التي تخلب الألباب.. وبينما نحن ننطلق بالسيارة شعرتُ بأنني أفارق كل ما أحببت في حياتي..”.
 
كنتُ أود لو أسأل الكاتبة: بالرغم من كل هذا الكم من الحب الذي كان يُحيط بالجاليات اليهودية في كافة أرجاء العالم العربي، لماذا لم ألمح شيئاً من الندم تجاه ما قام به شعبها من خطايا تجاه العرب الذين أحسنوا ضيافتهم في أوطانهم؟!